أكد كثير من العلماء والمتخصصين على أن الاستمرار في النهج الإنتاجي والاستهلاكي المبالغ فيه, والتأثيرات الضارة للنظم الصناعية الحالية، باتت من الأمور التي تهدد مستقبل البشرية، فعمل كثيرٌ منهم على تطوير بدائل والبحث عن رؤى أكثر توافقًا مع الطبيعة، وأقل إضرارًا بالبيئة، واستنزافًا لمواردها؛ ومن ثم أكثر استدامة.
من بين تلك الأفكار الإبداعية التي تطورت في العقدين الأخيرين, هي الاقتصاد الدائري Circular Economy، أو اقتصاد التدوير، تبعًا لرؤية المعماري والبيئي السويسري والتر ستاهيل، الذي ابتكر هذا المصطلح ووصفه عام 1976 بأنه “من المهد إلى المهد”؛ أي الاستفادة قدر الإمكان من المنتج عبر تدويره وإعادة إخراجه في أشكال واستعمالات جديدة، لخدمه الاقتصاد والبيئة معًا.
وتنقسم نماذج الأعمال الاقتصادية الدائرية إلى مجموعتين: تلك التي تعزز إعادة الاستخدام وتمتد فترة الخدمة او الاستخدام من خلال الإصلاح وإعادة التصنيع والترقيات والتحسينات؛ وتلك التي تحول البضائع القديمة إلى موارد جديدة عن طريق إعادة تدوير المواد.
وللناس – من جميع الأعمار والمهارات –دور مركزي لهذا النموذج الثاني، فالملكية تفتح الطريق لحرية التصرف في الأشياء، ويصبح المستهلكون المستخدمون هم المبدعون، وتصبح عملية إعادة تصنيع وإصلاح السلع القديمة والمباني والبنية التحتية مجالًا خصبًا لخلق الوظائف، وتطوير المهن، وفتح ورش العمل، والتعلم من تجارب الماضي، والحفاظ على رأس المال الطبيعي والبشري والمصنّع والمالي.
ويتطلع هذا النموذج إلى إطالة عمر المنتجات في مرحلة الاستخدام؛ من خلال الحفاظ على قيمتها، وإزالة المنتجات الثانوية الضارة؛ مثل المواد السامة؛ لخلق حاضنة مثالية لشركات تتسم بالابتكار في مجالات الاستدامة والحفاظ على الموارد؛ إذ أوضح تقرير حديث للمفوضية الأوروبية أن الاقتصاد الدائري سيحد من انبعاث الكربون في الاتحاد الأوروبي وحده بنحو 450 مليون طن سنويًا، وتحقيق منفعة تصل إلى 1.4 تريليون يورو بحلول عام 2030.
وقد بدأت بالفعل المؤسسات الصناعية الكبرى في التحرك؛ بإطلاق 659 مصنعًا حول العالم منها 400 في أوروبا، و100 في اليابان، و89 في الولايات المتحدة الأميركية، و70 في آسيا، تقوم بتحويل النفايات إلى طاقة؛ إذ يؤدي إعادة تدوير طن واحد من البلاستيك إلى توفير 1.5 طن من ثاني أكسيد الكربون، فيما تقدر القيمة الإجمالية للطاقة المستخدمة من النفايات سنويًا حوالي 3.5 مليار دولار.
ولنتعرف على حجم الفرص التي يتيحها الاقتصاد الدائري للمملكة العربية السعودية، تؤكد بعض الدراسات على أن نصيب الفرد من النفايات الصلبة في دول مجلس التعاون الخليجي من بين أعلى المعدلات عالميًا، بمعدل نمو يبلغ 10% سنويًا، فبحسب “سابك”, تمثل حصة السعودية60% من إجمالي النفايات الصلبة في المنطقة، وهي نفايات تشمل كميات هائلة من المعادن والمواد التي يمكن إعادة تدويرها وبيعها؛ مثل مخلفات البناء، ومركبات الألمونيوم (السكراب) التي يتم إعادة صبها وبيعها في الأسواق العالمية للألمونيوم.
وقد بدأت بالفعل شركات دولية في تطبيق برامج إعادة تدوير وخفض استهلال الطاقة؛ إذ أهّلت وحدة البلاستيكيات المبتكرة في “سابك” 25 باقة من المنتجات لضمها إلى قائمة المنتجات المراعية للشروط البيئية، وخفّضت شركة رولز رويس البريطانية من استخدام المواد الخام والتكاليف والانبعاثات؛ من خلال برنامج لإعادة التدوير، يعزز كلًا من مفهوم الطاقة المستهلكة في الساعة ومفهوم إعادة التصنيع.
وتحاول شركات أخرى استرداد منتجات النفايات الصناعية؛ مثل خراطيم المياه والمظلات العسكرية التي لم تعد تُستخدم؛ لتعيد تدويرها في شكل أحزمة وحقائب ومحافظ؛ إذ تدرس شركتا فورد وهاينز إمكانية استخدام قشرة الطماطم كأساس لمواد تركيب جديدة لقطع غيار السيارات واستخدامها كبلاستيك حيوي.
المُفرح في الأمر، أن هذا الاقتصاد البيئي يتماشى مع التوجهات العالمية في الاستدامة, وتشجعه أهداف التنمية المستدامة وأجندة 2030 للتنمية التي أطلقتها الأمم المتحدة في سبتمبر عام 2015 , كذلك الرؤيا الاقتصادية للمملكة 2030 والتي أكدت عليه في محورها “مجتمع حيوي بيئته عامرة”، وعلى ضرورة تحقيق استدامة بيئية, وأن الحفاظ على البيئة والمقدرات الطبيعية واجب دينيّ وأخلاقي وإنساني، ومن مسؤولياتنا تجاه الأجيال القادمة، ومن المقومات الأساسية لجودة حياتنا.
وأكدت الرؤية على العمل على الحد من التلوث برفع كفاءة إدارة المخلّفات والحدّ من التلوث بمختلف أنواعه، والعمل على تأسيس مشروع متكامل لإعادة تدوير النفايات؛ وذلك من خلال مشروعات تموّلها الصناديق الحكومية والقطاع الخاص.
لا جدال في أن شباب رواد الأعمال السعوديين لديهم اليوم فرص كبيرة في تطبيق محاور هذه الرؤية واستغلال الموارد الهائلة من النفايات الموجودة في المملكة، والإسهام في تنمية مجتمعهم واقتصادهم الوطني، وكذلك المساهمة في تطوير هذا القطاع الحيوي وتطبيقاته والاقتصاد الدائري الذي سيكون له أهمية متزايدة في الاقتصاد العالمي مع مرور الوقت.
وسوف نرى كيف سيكون هذا القطاع من أهم القطاعات ذات القيمة المضافة والربحية الكبيرة, خاصة وأنه يمثل قطاعًا إنتاجيًا يعد الوحيد الذي تتوفر له المواد التي يحتاجها وبأسعار زهيدة؛ ما يساهم في نموه وتطويره كأحد روافد التنمية المستدامة. ومن الأدلة على هذا التوجه، ما أعلنه تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي بأن الاقتصاد الدائري سيوفر على العالم تريليون دولار بحلول عام 2025،وسيولد 100 ألف وظيفة جديدة خلال خمس سنوات.
سوف نعرض في المقالات القادمة مجموعة أفكار ونماذج عالمية لمشروعات صغيرة ريادية توظف المنتجات المستعملة والنفايات التي تنتج في المملكة سنويًا، ويمكن للشباب السعودي أن يتوجه إليها.