بنجاح مفاهيم وتطبيقات التنمية المختلفة، ظهر بالتوالي الحاجة إلى تنمية مجالات جديدة. فمثلما اتسعت دائرة “حقوق الإنسان” منذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، ولم تعد تقتصر على الحق في الحياة والصحة والعقيدة والتعليم والحرية والتعبير، بل اتسعت لتشمل الحق في المعرفة والعمل والثقافة وغيرها، و الحاجات الأساسية، وليس فقط الغذاء والكساء والمأوى، بل أضافت إليها حقوق الصحة والتعليم والثقافة والمعرفة والعمل أيضًا، وهكذا اتسعت وتنوعت أشكال وأنواع التنمية.
أول تطوير لمفاهيم وأنواع التنمية-غير التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية- جاء من خلال “التجربة اليابانية” في التنمية؛ حيث حققت اليابان تقدمها المذهل بعد الحرب العالمية الثانية، وظلت- هي وألمانيا- تتبادلان المركزين الثاني والثالث في الاقتصاد العالمي، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أن اليابان لا تمتلك أية موارد طبيعية هامة(لا بترول ولا معادن ولا غاز ولا مناجم أو محاجر ولا أراضٍ زراعية). وكانت المشكلة في أن تعريف التنمية المستقر عليه كان ينص على:- “التنمية هي تحقيق التغيير نحو الأفضل بجهد مخطط، بالاستخدام الأمثل للموارد المتاحة”، وكان من الواجب شطب كلمة “المتاحة” من التعريف؛ لأن اليابان لا تمتلك أية “موارد متاحة”.
لقد اعتمدت اليابان على “موارد الغير”، ثم لم تقم فقط بتصنيعها وتحقق قيمة مضافة إليها، بل قامت بتصنيع منتج مميز، أصبح معه الإنتاج الياباني علامة مميزة.
وقد نجحت اليابان في تحقيق ذلك من خلال مهندسيها وعمالها وخبرائها؛ أي من خلال “الإنسان الياباني” الذي يعني “المورد البشري”. ومن هنا، بدأ الاهتمام بفرع تنمية جديد هو “تنمية الموارد البشرية” Human Resources development والذي تم تعريفه بـ : تحسين نوعية الموارد البشرية “التعليم والتدريب والمعرفة والصحة”. وقد حذت ألمانيا حذو اليابان بالتركيز على “المورد البشري” رغم أنها دولة ذات موارد وتاريخ وثقافة عميقة، ليصبح في العالم دولتان فقط، إذا ذكر اسمهما أمام أي صناعة، يعني “الجودة”.
أصبح تعبير Made in Japan أو Made in Germany علامة جودة لبلد بكامله، وليس فقط لمصنع أو شركة.
وفي منتصف السبعينيات، حققت شركة “تويوتا” اليابانية، انقلابًا في صناعة السيارات، سحب البساط من صناعة السيارات الأمريكية – وما زال – حيث أعلنت أن مصنعها ينتج سيارة كل دقيقتين. تمثل الانقلاب في أن “هندسة الإنتاج” الياباني قد ابتكرت نظمًا للإنتاج، يتم بموجبها تصنيع جزء كبير من قطع غيار السيارات ومكوناتها من خلال شبكة مصانع صغيرة مغذية Feeding Industry عالية الجودة، كما استحدثت اليابان نظامًا يُسمَّى Just in Time (JIT) ، لا يتم بموجبه شغل مخازن المصانع الكبيرة بمستلزمات الإنتاج والمدخلات Inputs بكميات كبيرة، بل توريد هذه المستلزمات مباشرة على خطوط الإنتاج يومًا بيوم أو أسبوعًا بأسبوع.
وكانت هذه الابتكارات اليابانية مدخلاً لما عرف فيما بعد بإدارة سلاسل الإمداد Supply Chain (m) وسلاسل القيمة Value Chain.
والآن، لماذا اختارت اليابان لتفوقها “الصناعة” كأساس للتنمية؟؛ لأن الصناعة تحقق أعلى قيمة مضافة. ولماذا اختارت صناعة السيارات؟؛ لأن السيارة (13ألف قطعة غيار ،و 2000 مكون في المتوسط). ولأن السيارة كانت- وستظل حتى وقت قادم- أغلي منتج صناعي شخصي يباع بالقطعة (بمتوسط 15.000 دولار/ سيارة) حيث يبلغ إنتاج تويوتا عالميًا 10.4 مليون سيارة / سنة يليها مجموعة شركات فولكس فاجن حوالي 10.2 مليون سيارة / سنة .
“قصة التنمية اليابانية” أهدت للعالم فكرة “تنمية الموارد البشرية” ونظام التعليم الياباني الذي اعتمد على “التعلُّم” قبل “التعليم” و”تربية النفس” و”بناء الشخصية”؛ ماساهم في تطوير التعليم في معظم دول “النمور الآسيوية”.
وبينما كان التعليم الأمريكي يعزز “الفردية” ويعمل على تنمية “رائد الأعمال” المغامر المبادر المنافس، كانت مدرسة ريادة الأعمال اليابانية تعتمد على التشارك والتعاون وفرق العمل.