كم هي قاسية ومظلمة تلك اللحظات التي يشعر الإنسان فيها بأن حياته بلا هدف، فما زلت أتذكر فترات من حياتي مررتُ فيها بمثل هذه اللحظات التي لم تسِر فيها الأمور كما كنت أود، سواء ارتكبت فيها أخطاء انعكست فقدانًا للثقة، أو منعطفات خذلني فيها بعض المقربين.
ما تعلمته من كل تلك المنعطفات، أن جذوة الأمل لا ينبغي أن تنطفىء أبدًا، بأن بذرة الخير لن تموت، ما دمنا على قيد الحياة، وأن الحال سيكون أفضل، ما دمنا متمسكين بإيماننا.
أذكر أنه كان لي لقاءات مع بعض الأخوة الذين ضل بهم الطريق، فاتجهوا إلى إدمان المخدرات والمسكرات؛ حتى دخلوا السجن، فكانوا كثيري اللوم لأنفسهم، وكانوا يتساءلون: كيف هبطنا لمثل هذا المستوى الموحل؟
كان بعضهم – من شدة حنقه على ما فعل- يقول: إن الحيوانات أفضل منا، وكان بعضهم يتساءل: هل هناك طريق يوصلنا للرقي ومصاف المتميزين والناجحين بعد ما سقطنا فيه؟
لقد دفعني كلامهم هذا إلى التأمل والتفكير في القوة المذهلة التي نمتلكها، والتي تدفعنا للتغيير مهما كان ماضينا، ومهما كانت الظروف قاسية، فكوننا بشر وشركاء في الحياة، فإن ما يستطيع إنسان ما تحقيقه في أي مكان من العالم، يمكن لغيره أن يحققه، إذا ما توافرت ظروف متقاربة. وللتدليل على ذلك، أسوق قصة مناضلة قلبت حياتها رأسًا على عقب، لعلنا نستلهم منها الدروس والعبر والفوائد.
ولدت عام 1958م لأسرة شديدة الفقر، انفصل أبواها في سن مبكرة لولادتها، كان والدها حلاقًا، ووالدتها خادمة في البيوت. تربّت مع جدّها وجدتها حتى السادسة من عمرها، وكانت ترتدي أثوابًا مصنوعة من أجولة البطاطس؛ ما كان يعرضها لسخرية أقرانها. وعندما بلغت الثانية عشرة من عمرها، انتقلت للعيش مع أمها، ثم تعرضّت في سنّ الرابعة عشرة للتحرش الجنسيّ والاغتصاب، فحُرمت نتيجة ذلك من نعمة الأطفال بعد زواجها.
كان لهذه الأحداث المأساوية، تأثير مباشر على حياتها؛ إذ كانت قد أدمنت في فترة المراهقة، الحبوب المخدّرة والمهلوسة، ثم الهيرويين والكوكايين. وعلى الرغم من عائلتها المفككة والظروف الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، قررت أن تستمر في تعليمها رغم ما واجهته من عراقيل، فالتحقت بالجامعة، وتفوقت في دراستها على جميع زملائها، إلى أن أصبحت من أوائل الطلاب الأمريكيين ذوي الأصل الأفريقي الذين يدرسون في جامعات الولايات المتحدة من خلال منحة تعليمية؛ لتنال درجة البكالوريوس في الفنون المسرحية.
قيل إنها أصغر مذيعة في تاريخ المحطات الإذاعية، تخطت الكثير من المخاوف التي كانت تعترض طريقها؛ وذلك لقدرتها على مواجهة مخاوفها، شاركت في دور رئيس في فيلم “اللون الأرجواني” الذي رُشّح لتسع جوائز أوسكار، ثم شاركت في العديد من العروض السينمائية والتلفزيونية.
انقلبت حياتها رأسًا على عقب، بعد أن بدأت عام 1989 تقديم البرنامج الأشهر على مستوى العالم Oprah Show، الذي يسلط الضوء على القضايا الاجتماعية التي تهم المجتمع، والذي حقق نجاحًا استثنائيًا بفضل الحضور الطاغي لمقدمته وطريقة حوارها؛ لتصبح نموذجًا إعلاميًا فريدًا على مستوى العالم.
وفي أوائل التسعينيات؛ حيث كانت أغلب البرامج الحوارية تقدم مضمونًا تافهًا باستثناء برنامج Oprah الذي زادت شهرته، وأصبح مع الوقت جزءًا أصيلًا من الثقافة الشعبية الأمريكية، ويتصل بكل تفاصيل حياتهم لتصوّر Oprah عدة حلقات تاريخية مع نجوم ورموز المجتمع الأمريكي.
وبمرور الوقت زادت شهرتها؛ لتصبح عالمية؛ حيث يعرض برنامجها في أكثر من 100 دولة على مستوى العالم، ثم أسست شركة إنتاج خاصة بها؛ لتصبح ثالث امرأة تملك شركة إنتاج. ومنذ عام 1995م، لم تخلُ قائمة فوربس الاقتصادية لأكثر 400 أمريكي ثراءً من اسمها؛ إذ اعتلت القائمة ثلاث سنوات متتالية.
وأصبحت أوبرا من أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم؛ إذ بلغ دخلها السنوي ربع مليار دولار؛ ما جعلها أول مليونيرة سوداء في العالم، كما استقطب برنامج Oprah الملايين من حول العالم، فحققت من خلاله ثروة كبيرة، وبات الأعلى من حيث نسبة المشاهدة في تاريخ التلفزيون؛ حتى حصلت على جوائز”إيمي”.
لم تقتصر أوبرا على العمل التليفزيوني، بل إنها ناقدة أدبية مرموقة، وناشرة صحفية، فضلًا عن كونها أكثر الشخصيات الإنسانية في العالم؛ حيث أسّست العديد من الجمعيات الخيرية، ولا تتوقف تبرعاتها الخيرية.
أختم مقالي هذا بأقوال لأوبرا وينفري، بها كثير من الحكمة:
• “النجاح المادي يزودك بالقدرة على التركيز على الأمور المهمة فعلًا”.
• “كن قادرًا على إحداث الفرق ليس في حياتك وحسب، بل في حياة الآخرين”.
• “كلما احتفلت بحياتك أكثر، منحتك الحياة أشياءً جديدة تحتفل من أجلها”.
• “عندما تتبلور معرفتك بنفسك، ستكون أكثر قدرة على معرفة ما هو الأفضل لك”.