بسبب تردي الأوضاع في معظم الدول النامية التي طبقت ترسانة النظريات والسياسات التنموية الرأسمالية والاشتراكية، وحتى الانفتاح الاقتصادي الكامل، ووصلت إلى باب مسدود، يعتقد الكثيرون- وأنا منهم- أن علم الاقتصاد التقليدي يواجه مأزق كبير مع قضية التنمية, فتجدهم ينادون بحوكمة الفكر الاقتصادي الحالي، وإجراء تحليل عميق، وتنقيته مما يحتويه من نظريات أصبحت عالة عليه ومقيدة لتحركة نحو التوافق مع الأوضاع المالية والاجتماعية والتكنولوجية والبيئة المعاصرة.
ولايكاد يمر يوم، إلا ونكتشف فيه نقاط اختلال هذا الفكر, وأسبابًا جديدة لعدم فاعليته، بل وعدم قدرته على إخراج الدول المتخلفة من تراجعها الاقتصادي والاجتماعي, فيرجع البعض الفشل الذريع- الذي لحق بمختلف نماذج التنمية التي جُربت في سائر بلدان العالم الثالث بشكل أساسي- إلى إهمال متعمد للتحقق من نظريات التنمية المتبعة.
وفي هذا الإطار، أذكر قول روبورت مكمنار؛ رئيس البنك الدولي في خطابه الشهير عام 1973: “على الرغم من مرور عقد من الزمان على زيادة غير مسبوقة في الناتج القومي للبلدان النامية، فإن أفقر شرائح سكانها لم يحصلوا على فائدة تذكر، فيعيش نحو 800 مليون شخص – 40 % من مجموع 2 مليار – على دخل يقدر بنحو 30 سنتًا في اليوم في ظروف تشهد سوء تغذية وأمية؛ أي يعانون الفقر بالمعنى المطلق”.
وسواء كان الخبراء يعملون لدى البنك الدولي أو صندوق النقد أو كانوا خبراء محليين, فقد ركز معظمهم على جوهر التنمية من جانبها الذي أسميه “الاستهلاكي”، بالتركيز على معدلات النمو وأسعار العملات والاستثمار الأجنبي, كما اهتم بعضهم بالجانب السياسي من ترسيخ الديمقراطية، وحرية التعبير والرأي، والتعددية في هذه المجتمعات.
لكنَّ الجزء الأهم من التنمية؛ وهو الإنسان و”النظم الإنتاجية” التي يمارس من خلالها التنمية, لم يكن يلقى رواجًا كبيرًا من هؤلاء؛ وبالتالي وصلنا لمعدلات “تنمية اقتصادية” مرتفعة في الوقت الذي انهار فيه العائد منها على المواطن وندرة مشاركته فيها. وأذكِّر القارئ بتقرير البنك الدولي الصادر عام 2009، والذي اعتبر تونس ومصر نموذجًا في نجاح التنمية, فأتساءل: لماذا إذًا حدثت الاحتجاجات الاجتماعية، وقامت ثورات في البلدين, إذا كانتا قد حققتا أعلى معدلات للنمو الاقتصادي؟!.
وتأتي الإجابة عن هذا السؤال في مكان آخر غير ساحة السياسة ومعدلات النمو- وليست أيضًا في قضايا تفعيل منظمات المجتمع المدني التي استهلكت وقتنا- وهي ساحة تمكين الفرد وإطلاق قدراته وإبداعاته. نعم، لقد استطاعت مجتمعات مثل المجتمعات الآسيوية أن تنهض اقتصاديًا- وبشكل غير مسبوق- بل وشكل بعضها نمورًا اقتصادية ضُرب بها المثل في التنمية السريعة, لكنها سرعان ما انهارت تحت ضربات لوحات المفاتيح وشاشات الحواسيب التي تتحكم في التحويلات المالية وأسعار العملات, وكأن هذه التنمية “تطايرت”؛ فلم تكن سوى مضاربات استهلاكية أبعد ما تكون عن الاقتصاد الحقيقي!.
لقد انفتح علم الاقتصاد أخيرًا على معارف أخرى؛ كعلوم الأخلاق البيئية،والعلوم الاجتماعية وامتزجت به التطبيقات التكنولوجيا الجديدة؛ لتصنع اقتصادًا جديدًا, يضع الناس العاديون نظرياته, فكان الكندي “كاريت كاب” هو صاحب فكرة خدمة التوصيل حسب الطلب عبر تطبيقات الهاتف المتحرك “أوبر”, والتي أطلقها في أوائل عام 2009، ثم سرعان ما تحولت الفكرة إلى ظاهرة ووسيلة انتقال تستخدم في 640 مدينة في العالم.
يمثل كاريت كاب الجيل الأول من رواد الاقتصاد التشاركي (Shared Economy)- أحد أنواع الاقتصاد الجديد- الذي لم نعد نستطيع أن نحيا من دونه، وانضم إليه الاقتصاد الدائري، والاقتصاد الاجتماعي، والاقتصاد الأخضر, وريادة الأعمال الإبداعية. وكلها اقتصاديات يعمل فيها الناس ويكسبون أرزاقهم، ويحققون أحلامهم من خلال وضع حلول لمشاكلهم ومشاكل البيئة التي يعيشون فيها, ويخلقون دوائر متسعة من التنمية التي تتم بعيدًا عن الرؤى الاقتصادية وخطط صندوق النقد وسعر صرف العملات.
تعليق واحد
مقال علمي تحليلي واقعي يفتح الباب للمختصين لإيجاد الحلول المناسبة لمشاكلنا الاقتصادية المزمنة في الوطن العربي ويضعنا جميعا علي اعتاب المسئولية المهنية والوطنية .. شكرا د. عاطف ومزيدا من النجاحات والتوفيق والتميز