يشتهر عن الجاحظ- أحد كبار أئمة الأدب في العصر العباسي- مقولة، جعلتني أُمعن النظر في كل ما حولي، وبشكل مختلف عن ذي قبل؛ وهي: “الأفكار مُلقاة على قارعة الطريق”، فكان بذلك هو أول من تكلم عن الأفكار وأهميتها وقيمتها، فإما أنْ تمثل ثروة لمن يستفيد منها، أو جحيمًا لمن لا يحسن استخدامها.
لم أكن أتوقع أن للأفكار هذه الأهمية، وزاد من تعجبي، اطلاعي على ما قرره بعض علماء النفس والفلسفة؛ كالفيلسوف الصيني “لاوتسو”، فيما يُعرف باستراتيجية صنع الشخصية والمصير؛ عبر السيطرة على الأفكار؛ إذ يقول: “راقب أفكارك؛ لأنها ستصبح كلمات، وراقب كلماتك؛ لأنها ستصبح أفعالًا، وراقب أفعالك؛ لأنها ستتحول إلى عادات، وراقب عاداتك؛ لأنها ستكوِّن شخصيتك، وراقب شخصيتك؛ لأنها ستحدد مصيرك”.
وبهذا يكون الناجحون، هم من يملكون الحزم الكامل لمواجهة أية أفكار سلبية يمكن أن تغزو عقولهم؛ بإخمادها في مهدها قبل أن تسيطر على عقولهم؛ وبالتالي تشل قدرتهم على الحركة والإنجاز.
ومن جانب آخر، فإنهم يتمتعون بهمة عالية وعزم متواصل لوضع ثمرات العقول من الأفكار، أو الكلام الجميل الذي يدور حولهم محل الفعل والتطبيق، بل إن كثيرًا من الناجحين لم يكونوا دائمًا هم من أنتج الأفكار المتميزة بالضرورة، بل حسبهم أنهم كانوا أصحاب همة عالية، ويقظة حادة؛ لاستثمار أفكار غيرهم.
حقًا، إن الأفكار المتميزة والخلَّاقة، تحيط بنا من كل جانب، وكأنها صارت- من كثرتها- ملقاة على قارعة الطريق، كما قال الجاحظ، فعلى صعيدي الشخصي لا أكاد أُحصي عدد من ذكروا لي أفكارهم، كما شاركت على مدى السنوات الماضية بأفكاري مع غيري؛ ومن ذلك ما شاركت به في ماراثون الأفكار على مستوى العالم العربي، واختيار بعض أفكاري من ضمن الأفضل؛ وذلك لاعتقادي بأن من الإحسان الذي يمكن بذله للغير، أن نقدم لهم أفكارًا، يمكن أن يحولوها لمشاريع تنموية، تسهم في نمائهم وسعادتهم؛ وبالتالي نماء المجتمع وسعادته؛ وبذلك ندخل فيما أخبرنا عنه نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- بأنَّ من أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى “سرور تدخله على قلب مسلم”.
وأذكر ذات يوم، أنني سألت طلابي في الكلية: من لديه فكرة ويريد تنفيذها؟ فرفع الجميع أيديهم، ثم دارت المحاضرة كلها في نقاش مستفيض حول أهمية هذه الأفكار وضرورة تحويلها إلى مشاريع نلمسها بأيدينا؛ أي ننقلها من عالم الخيال إلى الواقع، سواء مخترعات، أو مشروعات تنموية، أو خيرية، أو خدمية، أو غيرها.
يذخر التاريخ بمخترعات عظيمة لم تخرج للوجود، إلا بعد أن جسدها أصحابها واجتهدوا في تصميمها وتنفيذها. ولو تطرَّقنا إلى قوة الأفكار، ومدى تأثيرها على النفس البشرية، والطاقة والحيوية، فإنها تؤدي لإيقاظ المشاعر؛ تلك الطاقة التي تؤدي للحركة، فالعقل يفكر والإرادة تختار، لكن كل هذا لا يتحول إلى واقع عملي، إلا إذا استطاعت هذه الأفكار والاختيارات تحريك المشاعر.
لذلك، لن نستطيع التحكم في سلوكياتنا، قبل أن نبدأ السلسلة من أولها؛ بالتحكم في الأفكار، ثم إدارة المشاعر، ثم إدارة السلوك. وكمثال على ذلك، عندما تصلني رسالة عبر البريد، لم يُظهر مرسلها اللباقة في أسلوب كتابته، فتبدو الرسالة وكأن صاحبها يتعمد الإساءة لي، ثم تبدأ هذه الفكرة بجذب صاحباتها؛ وبالتالي يتولد لدي شعور بأن المرسل سيء الخلق؛ ما يترتب عليه شعور بالغضب منه، ثم إرادة في الانتقام بقطع العلاقة؛ وبالتالي تتأزم العلاقة بيننا.
كل ذلك كان بسبب فكرة، وكان الأجدر قبل أن يحصل كل هذا، أن أدرك أنني غاضب (الشعور)، ثم أعرف سبب الغضب (تفكيري كتفسير للموقف)، ثم أناقش هذه الفكرة وأرى ما إذا كانت هي التفسير الوحيد أم هناك تفسيرات أخرى؛ وهو الغالب. وعندما نضع أكثر من تفسير (سلبي وإيجابي) فإن مشاعر الغضب تهدأ قليلًا؛ ما يجعلنا قادرين على التحكم في سلوكنا، وفعل الأفضل، وقس على ذلك كل المواقف، فكم هي خطيرة تلك الأفكار التي قد تجسد حياتنا برمتها تجاه ما نفكر فيه؛ فعندئذٍ أدركت ما كان يعنيه جوزيف ميرفي عندما قال: “كل شيء في هذه الحياة عبارة عن أفكار متجسدة”.