ذكر لي أحد زملائي في العمل، أنه لا يعود إلى منزله إلا قُبيل المغرب في معظم الأيام! وفي كثير من الاجتماعات التي كنت أحضرها كان يعبِّر بعض الحاضرين عن تفانيهم وإخلاصهم في العمل بأنهم لا يعودون إلى منازلهم إلا في أوقات متأخرة من اليوم، بل وزاد بعضهم أنه قد يرجع إلى عمله حتى في إجازات نهاية الأسبوع، أو غيرها من الإجازات!
كنت أستمع ذات مرة لمقابلة إذاعية مع أستاذ جامعي برتبة بروفسور ويشغل وظيفة قيادية، كان شديد المبالغة في وصف انغماسه في عمله إلى درجة استفزتني، فكان مما ذكره أنه لا يغادر عمله غالبًا، إلا وقد أوشك يومه على الانتهاء؛ حتى إن المذيع سأله عن برنامجه في إجازة نهاية الأسبوع، فأجاب أنه كثيرًا ما يذهب إلى عمله في الإجازة لإكمال ما بقي من أعماله، بل إنه أعتاد اصطحاب بعض الأوراق والبحوث معه لاستكمالها في المنزل.
وخلال حديثه الإذاعي، تحدث بنبرة كئيبة عن معاناته من مشكلات أسرية، وأن أهله يضحون من أجله كثيرًا، وأنه لا يملك وقتًا للجلوس مع أبنائه أو مرافقتهم في رحلة أو ما شابه ذلك!
وأعرف بعض المنخرطين في العمل التجاري وهم يقضون جل أوقاتهم منذ سنوات في العمل إلى درجة موحشة، قطعتهم عن أسرهم، وعن التواصل مع محيطهم، فلم يعد لهم تأثير في الحياة سوى دائرة الرزق التي يدورون فيها.
وذات يوم، تحدثت مع أحد التجار وقد بلغ من الكِبَر عِتيًا، ولا أذكر أني ذهبتُ إلى محله في أي وقت من ليل أو نهار، إلا ووجدته هناك، بالرغم من وجود من يمكنه إدارة المحل نيابة عنه، فسألته: ألا يوجد وقت لأهلك وأسرتك وحياتك الخاصة، واهتماماتك، وهواياتك، وعبادتك؟! فأجابني بنبرة غير متزنة، بأن ملخص حياته يتمثل في العمل، وأنه لا يعرف حياة غيره!
تساءلت: هل كان انشغال هؤلاء الرجال أكثر من انشغال الرئيس الأمريكي رونالد ريجان الذي صنفته قناة ديسكفوري بأنه أعظم رجل سياسي مرَّ على الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان من عادته إنجاز أعماله الوظيفية خلال وقت الوظيفة، إلا فيما ندر، فكان- كما ذُكر عنه – ينهي أعماله في نهاية الأسبوع، قبل وصول طائرته الخاصة بنصف ساعة، فكان يقفز فرحًا عندما يسمع أزيز محركاتها في حديقة البيت الأبيض، ثم يذهب مباشرة.
ما قصدته هنا، أننا نلاحظ انشغالًا كبيرًا بالعمل، مقابل تغيير بطيء أو معدوم؛ ما يعني أن الموازين معكوسة، فلست أتفق مع “ريجان” في توجهاته العنصرية تجاه العرب والمسلمين لصالح الاحتلال الصهيوني، لكن تعلمت منه دروسًا هامة، أسير عليها منذ سنوات، ومنها ما كان يعبِّر عنه ريجان نفسه بـ “أن فاقد الشيء لا يعطيه”، فما دمتَ غير متوازن في حياتك الخاصة، فلن تحقق النجاح المطلوب لمؤسستك أو لنفسك، أو تحدث أثرًا ملموسًا في الحياة، أو كما يعبر عنه رجالات الحروب والمعارك بأن أسرتك وحياتك ومشاريعك الخاصة هي جبهتك الداخلية، فإن لم تحافظ على تماسكها، فلن تحقق النجاح على صعيد الجبهة الخارجية.
أختم مقالي بعبارات لـ”كولين باول”؛ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في مذكراته: ” هناك أوغاد مشغولون، والوغد المشغول لا يترك المكتب حتى يتأخر الليل، ويكون عليه القدوم للعمل في عطلة نهاية الأسبوع، ويأتي للعمل في الصباح الباكر في ساعات لا تناسب سوى مذيعي النشرة الجوية، دون أن يدرك أن عشرات آخرين سيلتزمون بموعد حضوره حتى ولو لم يكن ذلك ضروريًا. في كل وظيفة عليا تقلدتها، حاولت أن أخلق جوًا من الاحترافية وبأعلى مستوى من المعايير. وحين يكون هناك عمل ينبغي إنجازه بإتقان، كنت أنتظر من المرؤوسين تحتي أعمالًا على مدار الساعة، فإن لم يكن ذلك ضروريًا، لا أطلب منهم سوى ساعات العمل الطبيعية، والعودة إلى منازلهم في وقت مناسب، وملاعبة أطفالهم، والاستمتاع بأسرهم، وأصدقائهم، وقراءة الروايات، وتصفية أذهانهم، والاستسلام لأحلام اليقظة؛ لأنني أريدهم أن يحبوا حياتهم خارج العمل، فهم يأخذون أجورهم نظير جودة عملهم، وليس نظير ساعات عملهم، فبيئة العمل هذه كانت دائمًا ما تعود علي بأفضل النتائج”.
ويضيف:” لقد عملت بجدٍّ طوال حياتي، وكنت أتوقع دائمًا ممن يعملون معي الشيء ذاته، لكنني لم أحاول قط خلق أعمالٍ من العدم، فقد تعلمت مبكرًا أنَّ الحياة الحافلة لا تقتصر فقط على العمل، فنحن بحاجة إلى الأسرة، والراحة، والاهتمامات الخارجية، ووقت لمتابعة ذلك. إنني دائمًا ما أستحضر درسًا علمتُه كل ضباط المشاة الصغار: لا تجرِ إن كان بإمكانك المشي، ولا تقف إن كان بإمكانك الجلوس، ولا تجلس إن كان بمقدورك الاستلقاء، ولا تبقَ يقظًا إن كان باستطاعتك الذهاب للنوم”.