عمره أكثر من مائة عام.. ويمثل آخر ملامح “الخرطوم زمان”
عمر الفضلي: حافظنا على الطراز القديم للمكان ونقاوم الغابات الأسمنتية من حولنا
نسعى لإعادة الروح لوسط الخرطوم.. ولا بُد من تحويلها لمنطقة سكنية
“الخرطوم زمان”.. واحدة من أكثر العبارات التي تتصدر حكاوي الناس ويظلوا يتناولونها بحسرة وأسى على واقع جديد، فرضته ظروف العصر المتسارع، وتغيرات القرية الكونية التي باتت تفرض ثقافتها فرضاً على الجميع.
“الخرطوم زمان”.. بشكلها الجغرافي، وحياتها الاجتماعية الحافلة، تمثّل مادة خصبة لاستعادة الذاكرة لأجمل الأيام والأمسيات، بالنسبة لمن عاصروا تلك الحقبة، أو من سمعوا بها.
“باباكوستا”.. اسمٌ يتردّد على المسامع كلما تداعت إلى الذاكرة حكاوي أيام زمان، فالذاكرة تنقلك تلقائياً إلى شارع الجمهورية الشهير بوسط الخرطوم، ذلك الشارع الذي كان يمثّل روح العاصمة في أزمان بعيدة، قبل أن يتغيّر بتغير الحياة وتقلباتها التي لا تستقر.
(1)
الاستاذ عمر يحيى الفضلي، مالك ومدير “مطعم بابا كوستا” الشهير تحدث لنا عن تلك الأيام من خلال حديثه عن المطعم وتاريخه، منذ أن كان منزلاً عادياً يملكه “خواجة” يوناني اسمه “كوستا”، يقول عمر عنه إنه كان ممثلا للجالية اليونانية في السودان، وقد جاء دخوله مع الجالية اليونانية عند خروج الانجليز، وعمل في بداية حياته في مدينة “كوستي” في مجال التجارة، ويقال إن اسم كوستي جاء من اسمه أيضاً. كان “كوستا” تاجراً مرموقا يمتلك العديد من المحلات بالخرطوم، أما فيما يتعلق بهذا البيت – موقع المطعم – فيعود تاريخ بنائه إلى العام (1910)، وقد سكن به الخواجة “كوستا” في فترة الأربعينات والخمسينات، حتى منتصف السبعينات، أي بداية حقبة الرئيس جعفر نميري، تلك الحقبة التي شهدت تأميم العديد من بيوت الاغاريق. غير أن الخواجة “كوستا” كان قد باع البيت وغادر الى خارج السودان.
ويواصل الفضلي حديثه قائلاً: بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أن الخواجة “كوستا”، كان قد شيّد مخبزاً حديثاً في الجزء الشرقي من المبنى، ويعتبر أول مخبز أدخل الخبز الحديث إلى السودان، مثل “الرول” و”الفنجر” و”التوستا”. وكان موقع المطعم الحالي عبارة عن “دكانين”، أحدهما المخبز و كان ذلك في بداية الخمسينات، ووقتها ـــــــ يقول عمر ـــــــ كنا أطفالاً صغار، و كنا نأتي الى “بابا كوستا” لنتذوق منتجاته من الخبايز والحلويات، وجاء بعده زكي الحلواني، وسويت روزانا، وسيحة، والتني. وكانت الخرطوم في ذلك الزمان محدودة جغرافياً، فمن ناحية الجنوب كانت آخر حدودها في منطقة الشجرة، ووسط الخرطوم كان محصوراً بين السكة حديد حتى المحطة الوسطى، أما منطقة العمارات فكانت نهايتها في شارع 15 فقط.. ومن أبرز ملامح ذلك الزمان “سوق الزنك” بوسط الخرطوم، حيث كان منبع الحياة وملتقى سكان العاصمة. كان السوق عبارة عن مؤسسة عامرة بالفواكه والخضروات واللحوم، والحيوانات الحية، والأشغال اليدوية، باختصار كنت تجد به كل ما تريده لأغراض المنزل اليومية. وقبل ذلك كان السوق ينقسم لقسمين، يفصل بينهما شارع الجمهورية. وهما السوق العربي والسوق الافرنجي، وهذا الأخير قبل أن يتحوّل إلى متاجر كان عبارة عن منطقة سكنية، ثم تحوّل إلى مبانٍ جديدة ومتاجر امتدت حتى شارع البرلمان، وكانت تُعرض فيه أحدث ما أنتجته الشركات العالمية من ملابس، وكان أفضل “الترزية” يتمركزون في شارع الجمهورية.. كان هذا في نهاية الاربعينات وبعد أن تحوّل الشارع إلى متاجر كان أول محل تجاري فتح ابوابه فيه هو محل “السندكو” الكائن بالقرب من موقع مكتبة “مروي بوكشوب” حالياً، وكان مختصا ببيع الملابس الجاهزة المستوردة وأغلب التجار الذين عملوا في شارع الجمهورية كانوا من اليونانيين والشوام والمصريين، وكانت صنعتهم بيع الملابس الجاهزة الانجليزية. ويصف عمر الفضلي نمط الحياة في ذلك الزمان بأنه كان بطيئاً، وكان دوام معظم الموظفين والطلبة والعاملين ينتهي في الواحدة والنصف أو الثانية ظهراً، وكانوا يعودون إلى منازلهم وينالوا قسطاً من الراحة، ومن ثم يعودون مساءاً إلى وسط الخرطوم، ويستمر نشاط السوق حتى منتصف الليل.
(2)
يعود عمر الفضلي ويسرد بدايات عمل المطعم بعد أن آلت ملكيته لهم، ويقول: كان هناك تاجر عقارات مشهور بالخرطوم، اسمه المرضي محي الدين، وكان يلقّب بـ (مَلِك النواصي). اشترى هذا التاجر المطعم من الخواجة كوستا في العام 1974، وقد استخدم المقر كمخازن لمدة ثلاثين عاماً حتى وفاته، وفي العام 2005 اشتريناه منه وأعدنا تأهيله وتأسيسه من جديد، لأنه كان في حالة اندثار وكان آيلا للسقوط، وكنا حريصين على المحافظة على الطابع القديم للمطعم، وألا نغيّر من ملامح أصالته، وقد حافظنا حتى على المراوح القديمة الموجودة به، وهي انجليزية الصنع. ولذا ظلّ هذا المكان هو البيت الأخير في المنطقة الذي يحمل ملامح الطراز القديم.. ويضيف الفضلي بأن أكثر ما يقلقهم هو المحافظة على البيت في ظل العمران المتطاول من حوله، والذي يمكن أن يؤثّر عليه بمرور الزمن، حيث أن حوائط المطعم هي من البناء القديم، حوائط الطين، التي تقوم على “القشرة”. ويُبدي الفضلي تحسره على عدم اهتمام الناس والمسؤولين بالمباني القديمة، فهي جزء من تاريخنا، وتعتبر من المعالم السياحية للدولة، ولا بد أن تكون لنا موارد سياحية نقدّمها للآخرين.. ويذكر مفارقة وهي أنهم ووجهوا بعقبة من قِبل إدارة السياحة عندما بدأوا في تجهيز هذا المطعم والتصديق له، حيث قال لهم مسؤولو السياحة بالحرف : “لا يمكن أن يكون محلكم سياحي لأنه قديم”.. ولم يقتنعوا بوجه نظرنا بأن السياحي هو القديم، إلا بعد أن جاء اللبنانيون وفتحوا مطعم “الساحة اللبناني”.
(3)
يقول الفضلي إن مطعمه بجانب تقديم الوجبات والمشروبات، فإنه يحرص على تقديم الفنون التشكيلية والموسيقى، حيث يستضيف معارض شهرية، ويتيح الفرص لكافة الفنانين لعرض أعمالهم وإنتاجهم الإبداعي، من خلال معارض شهرية، وندوات ثقافية متنوعة، إلى جانب عرض المشغولات التقليدية، فنحن نقدم الأشياء التي يسعى إليها السياح الأجانب، ليجدونها هنا مع تقديم خدمات المطعم، حتى تحول إلى ما يشبه المركز الثقافي.
ويضيف بأن العديد من المشاهير والمفكرين والسياسيين والكُتَّاب يرتادون المطعم ويعتبرون زبائن دائمين له.
(4)
ويتحسر الفضلي على “موت” منطقة وسط الخرطوم، وانعدام الحياة فيها بعد أن تم نقل السوق إلى منطقة السوق المركزي جنوب الخرطوم، فوسط الخرطوم موقع مميز واستراتيجي قريب من النيل ومن المقرن، لذا حتى تعود الحياة إلى وسط الخرطوم لا بد من إعادة السوق إلى الوسط من جديد، لأن السكان تركوا هذه المنطقة بعد نقل السوق منها. ويشير إلى أن معتمد الخرطوم الأسبق دعاهم من قبل للعمل على إحياء منطقة وسط الخرطوم، واقترحت عليه أولاً بضرورة بناء وحدات سكنية في وسط الخرطوم حتى تعود الحياة إليه كما كان الوضع في السابق. أيضاً أشار الفضلي إلى مشكلة مهمة باتت تشكل هاجساً لسكان ومرتادي هذه المنطقة ألا وهي عدم وجود مساحات انتظار للسيارات “باركنات”، فالخرطوم كما هو معروف تعتبر تربط بين ثلاثة معابر للمدن الثلاث التي تكوِّن العاصمة المثلثة، ولا بد أيضاً من تحويل سير المواصلات العامة بعيداً عن الوسط، وعمل مسارات للمشاة حتى يعود للمنطقة شكلها الجميل والمعتاد.
ويقول الفضلي بأن ما يحدث الآن هو “ترييف للعاصمة”، فمثلاً يجب على السلطات المسؤولة أن تخصص أماكن لبائعات الشاي لممارسة عملهن بدلاً من وجودهن في كل مكان بوسط الخرطوم، ويشير إلى أن المقاهي كانت واحدة من ملامح الخرطوم زمان، واشتهرت قهاوي الزيبق، وأتينيه، وغيرها.
(5)
ويستعد عمر الفضلي لافتتاح مكتبة عامة داخل مطعم باباكوستا، في إطار سعيهم لتحويل المنطقة إلى مركز ثقافي للعاصمة، ويشير إلى الحراك الذي أحدثه عدد من الشباب من خلال فعالية (مفروش) الشهرية التي يعرضوا من خلالها عدداً كبيراً من الكتب والإصدارات بساحة اتينيه، ويقول نحن نشجّع مثل ذلك الفعل الثقافي وسنعمل معاً لإحياء المنطقة ثقافياً.
ولا يخفي صاحب مطعم باباكوستا قلقه من مصير المطعم واستمراريته في ظل موجة الغلاء الكبيرة على كل السلع، ويشير إلى أن واحدة من أكبر عقبات تطور السياحة، هي مسألة الجبايات المفروضة على المحلات السياحية، ففي ظل موات السوق وغياب الزبائن، تشكل الجبايات والرسوم المفروضة عبئاً ثقيلاً على عاتقنا وعلى كل المحلات التجارية بالمنطقة، ويقول إن مبيعات المطعم قد تأثرت كثيراً منذ انفصال الجنوب، حيث كانت الفترة الانتقالية فترة حية جداً كثر فيها الزبائن من الجنوبيين والأجانب، ولكن الآن قل عدد الأجانب كثيراً. لكنه يؤكد أنه وبالرغم من كل ذلك “نحاول أن نستمر، ونقلل من المواد المرتفعة السعر، مع تفادي المواد المضرة”، وكل ذلك حتى نستطيع أن نجاري موجة الغلاء الطاحن الذي يسود السوق.